حكم النجوى :
1/ ويبدو ان النجوى بذاتها غير مطلوبة ، خصوصاً اذا كان المتناجيان بين جمع من اخوتهم ، وانما تسوغ اذا كانت مبررات لذلك . قال ربنا سبحانه : { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } ( النساء / 114)
فإذاً لو كانت النجوى ذات محتوى يرضاه الرب ، من نوع الأمر بالمعروف ( كصلة الرحم ، او اشارة بخير ) او أمر بالانفاق والصدقة او دعوة الى الاصلاح .. فانها ذات خير ، وإلاّ فلا خير فيها .
والله سبحانه دعا الى النجوى بالمعروف ، ووعد من فعله أجراً عظيماً . لماذا ؟ لان الشيطان يوسوس في افئدة المتناجين ، ويدعــوهما الى اثارة الحمية ، والأمر باتباع الهوى . فمن كانت نجواه موافقة لعلنه ، وكانت فيها دعوة الى الخير، كان ذا ايمان صادق .
2/ وهناك ألوان من النجوى المنهية عنها ، وهي التي تضل الناس عن الحق ، كالنجوى التي كان المشركون يتناجون بينهم ، ويثيرون الشبهات حول الرسالة . وقد قال ربنا سبحانه : { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } ( الانبياء / 3 )
ولقد كانت محتويات التناجي بين المشركين تختصر في شبهتين ؛ الأولى : ان الرسول بشر ( وكيف يتبعون بشراً مثلهم ) . والثانية : ان رسالته سحر .
3/ ومن النجوى التي نهى عنها الرب بصراحة ، تلك التي كانت بين المنافقين ، حيث كانوا يحيكون المؤامرات حول الرسول . فكان المستكبرون منهم يأمرون المستضعفين بالاثم والعدوان ( اغتصاب حقوق الآخرين ) ، وكانوا يأمرون بمعصية الرسول (حيث يثيرون حوله الشبهات ، وانه من مكة وليس من المدينة ، او انه ليس إلاّ بشر مثلهم) . قـال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَــوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } (المجادلة/
4/ وقد أمر الله المؤمنين بآداب واحكام النجوى ، حيث امر ان يتناجوا - اذا تناجوا - بالأمر بالمعروف كطاعة الرسول وفعل البر والتزام التقوى ، وألاّ يتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول (سواء كانت بصورة مباشرة او غير مباشـرة ، مثل اثارة الحميات الجاهليـة في الأمة) . قال الله تعالى : { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيــهِ تُحْشَـرُونَ } (المجادلة/ 9)
5/ وفي مواجهة الحركات السرية التي انشأها المنافقون ضد الرسالة وقيادة الرسول ، ينبغي ان يتوكل المؤمنون على الله ، وليعلموا ان هدف المنافقين الاساسي القاء الحزن في نفوس الرساليين ، ويتلاشى ذلك بالتوكل على الله . قال الله سبحانه : { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (المجادلة/10)
ومن هنا فقد نهى الدين الحنيف المناجاة بين اثنين في محضر ثالث ، لكي لايحزن .
6/ وهناك آداب تتصل بمناجاة الرسول ، (حيث كان البعض يزاحم الرسول بنجواه بين الحين والآخر، لعله بهدف التعالي على الاخرين، وايهام المجتمع بأنه قريب الى الرسول). فأمر الله بألاّ يناجوا الرسول ، إلاّ بعد ان يعطوا صدقة قبل النجوى . فقال الله سبحانه : { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( المجادلة / 12)
وقد جاء في كتب التفسير : ان الاغنياء اكثروا مناجاة النبي صلى الله عليه وآله، وغلبوا الفقراء على المجالس عنده حتى كره رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك، واستطالة جلوسهم وكثرة مناجاتهم . فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر } فأمر بالصدقة أمام المناجاة .
وأما أهل العسرة فلم يجدوا ، وأما الاغنياء فبخلوا . وخفّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وخفّ ذلك الزحام ، وغلبوا على حبّه والرغبة في مناجاته حب الحطام ! واشتدّ على اصحابه ، فنزلت الآية التي بعدها راشقةً لهم بسهام الملام ناسخةً بحكمها ، حيث أحجم من كان دأبه الاقدام . وقال علي عليه السلام : " ان في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل أحد بها بعدي، وهي آية المناجاة . فانها لما نزلت كان لي دينـار فبعته بدراهم، وكنت إذا ناجيت الرسول تصدّقت حتى فنيت ، فنسخت بقوله : {ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات}. (76)
والله العالم