السؤال:
الشرك بالله أعظم الذنوب.
المفتي: شيخ الإسلام ابن تيمية
الإجابة:
اعلم ـ رحمك الله ـ أن الشرك بالله أعظم ذنب عُصى الله به، قال الله تعالى{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن}[النساء: 48، 116] وفى الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل:أى الذنب أعظم ؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"!!
والند المثل. قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقال تعالى{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[الزمر: 8] فمن جعل لله ندا من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة.
فإن الله ـ سبحانه ـ هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود، الذي تألهه القلوب وترغب إليه، وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون إلها؟ قال الله تعالى{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} [الزخرف:15] وقال تعالى{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم: 93]، وقال الله تعالى{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}[النساء: 172]، وقال تعالى{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[الذاريات: 51]، وقال تعالى{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}[الزمر: 11]، فالله ـ سبحانه ـ هو المستحق أن يعبد لذاته، قال تعالى {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]، فذكر (الحمد) بالألف واللام التي تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فـدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5].
فهذا تفصيل لقوله{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته: من المحبة والخوف، والرجاء، والأمر، والنهى. {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}إشارة إلى ما اقتضته الربوبية ،من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ هو المالك، وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء.
فإذا ظهر للـعبد من سـر الربـوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك :1] فلا يرى نفعا، ولا ضرا، ولا حركة، ولا سكونًا، ولا قبضا، ولا بسطا، ولا خفضًا، ولا رفعًا، إلا والله ـ سبحانه وتعالى ـ فاعله، وخالقه، وقابضه، وباسطه، ورافعه، وخافضه. فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيان، وهو علم صفة الربوبية. والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفات. فالتحقيق بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية.
والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير الساري في الأكوان، كما قال الله عز وجل{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[النحل: 40]. فإذا تحقق العبد لهذا المشهد، ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم، والجمال داخل في مشهد الربوبية.
ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم، وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة في ذلك.
ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول، ورأى قيام الله عز وجل على جميع الأشياء، وهو القيام على كل نفس بما كسبت، وتصرفه فيها، وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ حكمه، وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق، وعطل الأمر والنهى والنبوات، ومرق من الإسلام مروق السهم من الرَّمِيَّةِ.
وإن كان ذلك المشهد قد أدهشه وغيب عقله، لقوة سلطانه الوارد، وضعف قوة البصيرة؛ أن يجمع بين المشهدين، فهذا معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي، ومشهد الأمر الكوني الإرادي.
وقد زلت في هذا المشهد أقدام كثيرة من السالكين؛ لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين؛ وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه، ففنوا بمرادهم عن مراد الحق ـ عز وجل ـ منهم؛لأن الحق يغنى بمراده ومحبوبة، ولو عبدوا الله على مراده منهم لم ينلهم شيء من ذلك؛لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظاً لأمر سيده، لا يغيب بعبادته عن معبودة، ولا بمعبودة عن عبادته، بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه ؛كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإحسان"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده، ليوقعه على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه. فإذا تقرر هذا، فالشرك إن كان شركاً يكفر به صاحبه، وهو نوعان :
شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية.
فأما الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله نداً، أي: مثلا في عبادته، أو محبته، أو خوفه، أو رجائه، أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال:38] وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركـى العـرب؛ لأنهم أشـركوا في الإلـهية، قـال الله تعــالى{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} الآية [البقرة :165]، وقالوا{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}الآية [الزمر:3]، وقالوا{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}! [ص: 5]، وقال تعالى{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} إلـى قوله{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}[ق: 24: 26].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحُصَيْن"كم تعبد ؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: (فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك ؟) قال: الذي في السماء. قال: (ألا تسلم فأعلمك كلمات ؟) فأسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رشْدي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي".